أبواب الصمت ... تلك الأبواب التي عشت خلفها طويلاً إلى أن جاء ليعلمني أنها أبوابٌ افتراضية، تلك الأبواب التي اقتحمها بهدوءٍ ليقتحمني، ومنذ ذلك الحين لم أستطع أن أفتحها لأحدٍ سواه مهما حاولت أو حاولوا، بل ربما رجعت مرةً أخرى لأختبئ ورائها وأحكمت إغلاقها خوفاً من رياح الحياة العاتية ...
غالباً مايكون الطبيب الذي أسبر أغوار النفس هو القادر على علاجها، وقد كان طبيبي الذي حفظني عن ظهر قلب، يعرف ما قد أشعره وإن كنت بعيدةً عنه، فهو يسمع نداءي، لا أحتاج إلا أن يأتيني صوته عبر هاتفي أو أن يباغتني بلقاء.
مر الكثير والكثير من الوقت، ولا أزال أحمل الذنب بقلبي، لا أزال أتذكر الأحداث كأنها كانت بالأمس ولم يمض على الغياب كلّ هذا الوقت، أتخبطُ كثيراً قبل أن أرى صورته في كل غيم يمر على حياتي بنهاية كل شتاء، بنهاية كل قصةٍ جديدةٍ أرمي بنفسي في داخلها غير مكتملة الملامح، ينقصني شئ ما.
واليوم فقط تأكدت أن ما ينقصني كان هو، تنقصني تلك الملامح الهادئة، ينقصني ذلك الإحساس بالحرية، ينقصني ذلك البريق الذي توهج في حياتي وفجأة انطفئ، ينقصني طبيبي الذي كان يسمعني في كل لحظة تمر علّى وأنا متخبطةٌ بين الأفكار التي لا أفهم لها ملامحاً ولا أدرك مغزاً من محاصرتها إياي.
ماذا فعلت بي؟ ماذا أضعت بداخلي؟ لماذا تداهمني تلك الأحزان الآن؟ لماذا أفتقد كل تلك الأيام؟ لماذا أذكر كل تلك الأحداث بعد مرور كل هذا الوقت؟ أحنينٌ مفاجئ أتى ليجتاح ماتبقى مني؟ أم باب من الشمس فُتح لي لأرى مافات الآن بوضوح، أذبت أقنعة الشجاعة لدّي فلم أعد أختبئ وراء أحدها، لما وافقت أن تطير معي ياطبيبي وأنت تعلم أنك لن تستطيع الصمود طويلاً، علمتُك الطيران فكان أول مافعلت أن أفلتّ يدي.
لربما لم يكن خطؤك، أنني اخترت أن أبتعد كثيراً ظناً أني أحمي نفسي بابتعادي، ظننت حتى وإن طرت إلى أبعد مما تخيلت نفسي قادرةً على فعله، ولكنني فشلت في أن أختبئ، فشلت في أن أضيع بعيدةً عنك، أظل أنظر في مرآتي فأراك تشع من عينيّ كأنك ضميري الذي أبى أن يُدفن في داخلي، ماذا أفعل لتبتعد عني، ماذا أصنع بذلك الطيف الذي يحوطني في كل لحظة، ماذا أفعل لهذا الصوت الذي لم أستطع التوقف عن سماعه في كل وقت حتى وإن كان ليطمئنني أن ذلك الشئ سيمر في طريقه أيضاً، ماذا تفعل بي؟
لعلي حينما أغلقت الأبواب نسيت أنك لاتزال بداخلها، وددت لو تفتح تلك الأبواب مرةً أخرى فقط لتخرج من داخلها بهدوءٍ كما دخلتها ...