Saturday, February 23, 2013

حلم العيش على أعتاب الأرصفة



في بداية ثورة يوليو كان جمال عبد الناصر فى جولة بالقطار بمحافظات الصعيد، وكان القطار يقف فى كل محطة ويلوح عبد الناصر بيديه للناس، وفى إحدى المحطات أراد أحد عمال التراحيل أن يقول شيئاً للرئيس ولم ينجح، فألقى عليه بمنديله المحلاوى، وتلقف عبدالناصر المنديل بينما أصيب الأمن المرافق له بالهلع خوفاً من أن يكون داخل المنديل قنبلة، وفتح الرئيس المنديل فوجد به ( بصلة و رغيف عيش بتاو)، ولم يفهم أحد من الحضور رغم نمو حاسة حب الاستطلاع، لماذا رمى الرجل الطيب بهذا المنديل وما داخله؟
إلا أن جمال عبد الناصر كان الوحيد الذى فهم ماذا تعنى هذه الرسالة وأطل برأسه بسرعة من القطار واخذ يرفع صوته فى اتجاه الرجل الذى ألقى بمنديل قائلاً له: " الرسالة وصلت يا أبويا، الرسالة وصلت."، وعندما وصل أسوان أصدر قانون عمال التراحيل والحد الأدنى والأقصى للأجور، وفى خطابه مساءً ذلك اليوم فى جماهير أسوان قال:"أحب أقول إن الرسالة وصلت وأننا قررنا زيادة أجر عامل التراحيل إلى 25 قرشاً فى اليوم بدلاً من 12 قرشاً فقط، كما تقرر تطبيق نظام التأمين الاجتماعي والصحي على عمال التراحيل لأول مرة فى مصر"
لقد فهم جمال عبد الناصر الرسالة التى لم يستطع أحد غيره أن يكسر شفرتها، فالمنديل المحلاوى هو رمز عمال التراحيل وهم العمال الموسميين الذين يتغربون فى البلاد بحثاً عن لقمة العيش ولا يجدون ما يأكلونه سوى عيش البتاو وهو نوع من الخبز يعرفه أبناء الصعيد يصنع من الذرة مع مسحوق الحلبة.






واليوم وبعد أن مر أكثر من ستون عاماً على ثورة 52، أرى وأنا أمر يومياً على ميدان السيدة عائشة في طريق ذهابي إلى عملي مايفوق العشرات الرجال الوافدين من المحافظات والأقاليم بعد أن لاحقهم الإهمال والتهميش بحثاً عن فرصة عمل لم يعثروا عليها في محافظاتهم ليجدوا أنفسهم فريسةً للبطالة في العاصمة التي يفر ساكنوها  في الأساس إلى الدول العربية بحثاً عن فرص حياة أفضل، يأتون ولا ملاذ لهم إلا سوق العمال، إنهم عمال التراحيل من يجلسون على نواصي الشوارع والأرصفة متسلحين بقوتهم العضلية التي تأكها الرطوبة حاملين أدواتهم البسيطة ينتظرون الأمل يحمله لهم أحد المقاولين حينما يأتيهم بأحد أعمال رفع مواد البناء أو الهدم أو أي أعمال يدويةٍ شاقةٍ.
وليست السيدة عائشة فحسب هى الملجأ الوحيد لهم بل انتشرت أسواق العمال أيضاً في أماكن وسط ميدان رمسيس والاسعاف والمطرية والمرج وشبرا ومدينة نصر بالأحياء السابع والثامن والعاشر ومدينة 6أكتوبر، والعمرانية والهرم.
يفترشون الأرصفة رجالٌ ارتسمت على ملامحهم خطوط الفقر والموت واليأس والاحباط والخوف، تتراوح أعمارهم مابين عقدي العشرين إلى الكهولة، جالسين يملأهم الرجاء بأن يرزقهم الله بعملٍ ليومهم هذا يدر عليهم البضع من الجنيهات التي لاتكاد تسد رمق العيش لأصحاب العيشة المتوسطة في ظروف البلاد الحالية، وإن ابتسم الحظ لأحدهم ومرت أحدى السيارات التي يتعلق الأمل بهم لينزل منها أحد مقاولين الأنفار من من يبحثون عن عدد من عمال التراحيل الأقوياء لحفر قواعد أساس إحدي البنايات أو هدم خرسانة أو غيرها من أعمال المعمار، يكون التفاوض علي الأجر قاسياً حيث يفرض شروطه ويهددهم بين الحين والآخر بتركه لهم والبحث عن غيرهم لعلمه بمدي حاجتهم، وتكون المفاوضات حول السعر أقل وطأة إذا كان صاحب السيارة شخصا عادياً يبحث عمن يهدم له حائطاً أو يحمل ردماً من منزله، وغالبا ما يتراوح الأجر بين 35 و50 جنيهاً في اليوم الواحد لكل عامل منهم، ليعودوا في المساء خائري القوي لا يجدون مكاناً محدداً يبيتون فيه إلا داخل إحدى العمارات تحت الإنشاء مقابل عدة جنيهات يدفعونها لحارس العقار كل ليلة وكثيرا ما يبيتون في الحدائق أو لدى أحد البوابين والخفراء. 

وفي خضم التنازعات التي يتكالب عليها كل المصريين لايوجد من يتحدث إليه هؤلاء الرجال الذين لم تتيح لهم الحياة فرصةً لاختيار حياتهم ورسم خطوطٍ لمستقبلهم ومستقبل أسرهم.
أتأملهم يومياً سائلةً نفسي هل كان يظن عبد الناصر حينها أنه مبعوثٌ إلهي يحمل لهم الأمل بتوفير قانون مؤقت انتهى بانتهاءه، لم يعلم أنه بإيمانه الماركسي العميق كان هو السبب في تهجيرهم من أراضيهم بتمليكه الأراضي التي ارتفعت تكاليف الحفاظ عليها مما اضطرهم لبيعها والسعى وراء طرقٍ للعيش.

أين هم من قوانين عبد الناصر الآن؟ وأين هم من أيٍ من قوانين الثورات؟ أين هم من استثماراتٍ وتوفير تأمينات صحية واجتماعية لاتعود عليهم بأي الأشكال؟ أين هم من تهافت أرباب المصالح العليا والمتشدقين بصالح الشعب المطحون وشعارات الثورة الجوفاء "عيش...حرية...عدالة اجتماعية"؟
أضحيت أشك في أهداف جميع الثورات التي قامت وسوف تقوم على أنقاض من يحتاجون القيام الثورات كل يوم لأجل رفاهية العيش فقط، يقيناً لقد فشلت جميع ثورات العالم أن توفر لأحد هؤلاء الرجال حياةً آدمية كريمة وإن كانت بسيطة كل البساطة وتكفي فقط لسد احتياحات الحياه له ولأسرته.

تباً لجميع القوانين والثورات والايدولوجيات التي صنعها البشر ليبررون جشعهم بالعيش تحت شعار إنسانيتهم المزيفة!!