Monday, September 5, 2011

رحلة معنوية



تقف أمام بهاء ذلك النهر العظيم الذي لا تنفك تنبهر بثباته وعمقه وزرقته الآخاذة، وقوفك في حضرته يمنحك هيبةً وهدوءاً كأنك تشهد لحظة الحساب، أحاديثك الصامتة معه تريحك فهوكطبيبك النفسي الذي يهديك أسماعه متى أردت الكلام ويجاوبك متى أردت أن منه الرد، كصديقك الوفيّ الذي يدق في أعماقك ضميراً حياً في وقت شرودك أو جموحك فيردك إلى الطريق الصحيح 

تزوره مراراً وتكراراً ولا تتوقف عن الحديث إليه، و إن لاحظت ستجد أن زياراتك له دوماً ماتكون غير مرتبة، لا تُحضر نفسك له وإنما نفسك ماتحضرك إليه، فتنساق إليه مٌسَيراً لا مُخيراً، فقط تكون في حاجته ودون إدراكٍ منك بذلك، كهؤلاء الذين يمتنعون عن ذرف الدموع لحظات اليأس والإحباط، فدائماً مايوقظ الأمل والإصرار شيئاً ما بداخلهم كنوعٍ من التغذية الذاتية للنفس وبالتالي فإن الإكتفاء المعنوي لديهم أقوى وأكبر من غيرهم من البشر، في وقتٍ تحتاج فيه تلك الأحاسيس النفسية المعقدة لمن يحتضنك ويحمل عنك بعضاً منها

تقف، هادئاً، محدقاً إلى بهائه حتى وإن كانت أمواجه الهادئة تشيخ يوماً من بعد يوم ويزداد معها حكمةً ورقياً، كأنك وددت لو تحاكيه يوماً، فقد كَبُر عمره التي أذبلته الحياة ثورةً وهياجاً وحماساً واضطراباً وشباباً وعمقاً، تذوب وأنت تتعمق وتغرق في طبقاته كأنك موجةٌ ضمن أمواجه، تجذبك الأفكار بعيداً إلى أن تناديك "الندّاهة" التي  تحملك داخل عالمه الآسر، تذهب في رحلةٍ ليست بطويلة وإنما عميقة بقدر ماهو الإحباط وبقدر ماهو الكلام الذي تحمله بداخلك ولم تتفوه به، رحلةٌ تتخللها الاضطرابات وأحياناً الدموع، ترى خلالها مالم تكن تراه بعينيك الزجاجيتين، وتجيب على استفهاماتٍ عديدة لم تكن تحمل من الإجاباتٍ مايرضيك، لتفهم وتعيد حساباتك من جديد، رحلةٌ غريبة تبدأ الحياة بعدها من جديد لتراها بمنظورٍ مختلف، كأنها ارتدت حلّتها الجديدة

وتعود من رحلتك صامتاً بعد أن جفّ الكلام وانتهت الحكاية، حاملاً في جعبتك بعضٌ من الأحلام والأفكار التي أهداك إياها النيل، والكثير من الأمل في تحقيقها بعد أن أخذت منه وعداً بذلك، ليس خيالاً أو وهماً بل قمة الواقعية، فنحن من نصنع الأحلام، وكما هو النيل ينبع من جنةٍ وحلمٍ عالٍ لينساب في واقعية الحياة ليزيدها خيراً، هى الأحلام، تُزرع في أرض الخيال وتُحصد في أرض الواقع وهي مانعيش فيه، ولهذا السبب عرفت لما ترتبط الأحلام في أذهاننا بالجنان و الأنهار، ستظل تزوره مراتٍ ومرات إلى أن يجف نبعه أو أن تختلف الحياة بمعطياتها فتبتعد ولا تحتاج لزيارته

No comments: