قد تكون مُغيباً لبعض الوقت ولكن
يستحيل أن تغيب عنك الحقائق طول الوقت، وإن كنت من هؤلاء اللذين عاشوا التاريخ ومن
اللذين ينقبون في جحور الألعاب السياسية القديمة، وحُمِّلوا عبء نقل مايحملون
لأجيالٍ جديدة خصبة العقول جاهزة لأن تستقبل بذور مايزرع بداخلها وترويها بأحاديث
هذا وأراء ذاك، فأنت وحدك أمينٌ على الأحداث وحافظٌ لها من أي مساسٍ ضار، وهذا
مايغفل عنه العديد من حاملي ألوية الدفاعات الغير مثقفة من بنو الوطن في أوقات
المحن، قد لانعلم كل شئٍ عن بعض شئ وهذا طبيعي، ولكن قطعاً ماتتناقله الصحافة
والإعلام يومياً من أحداثٍ يبث فينا مايغذي اقتناع كل منّا على حدة، وكلٌ على
خلفيته ومايتشكل لديه من أراء من خبرات احتكاكاته بالبشر من حوله.
إذن فإن بعضٌ غير قليل من مايتناقل
اليوم من أخبار تغلب عليه صفة عدم اكتمال المصداقية لتعدد سياسات القنوات وخططها،
وبالتالي فهم لايدركون أنهم بذلك غير مبالين بما يرصدونه في سجلات التاريخ من
أخبار غير مدروسة العواقب في المستقبل القادم لأجيال تشب على الأحداث، وبناءً على ذلك
فإن ماوصل إلينا من أحداثٍ تاريخية عن الاحتلالات والحروب ونكسة 76 والاستنزاف وعصر
الملك فاروق والرؤساء نجيب وعبد الناصر والسادات ومبارك كانت ومازالت محل عبثٍ من
العديدين من أصحاب الاتجاهات السياسية المتزمتة والمختلفة، قد يكون الكاتب ذو
رؤيةٍ سياسية، قد يكون الصحفي ذو أراءٍ تحليليةٍ في الأحداث السياسية، وقد يكون
المذيع أو الإعلامي ناقل الأخبار من ذوي الثقافة السياسية المتعلقة بما يُعَد له،
ولكن بالقطع لن يكون أياً منهم سفيراً لأحد البلدان أو محارباً في الجيش أو مراسل
أخبار حربيّ أو رئيساً لأحد البلاد.
أذكر في هذا السياق ماقاله أنيس
منصور عن الرئيس السادات عندما كان يمليه مذكراته في عدة جلسات أنه كان يتمتع
بذاكرةٍ قويةٍ جداً للأحداث التي تمر عليه فهو يذكر التواريخ بأيامها وكانت هذه
إحدى الصفات الضرورية التي أشار إليها رئيس وزراء بريطانيا هارولد ولسون في كتابه
عن (رئاسة الوزراء) قال: يجب أن يتحلى الرئيس بثلاث: أن يكون قوي الذاكرة، وأن
يكون لديه إحساس بالتاريخ وبدوره هو في التاريخ، وأن ينام بعمق.
وكانت كل هذه الصفات عند الرئيس
السادات، وكان هو يقول أن الفرق بينه وبين الرئيس عبد الناصر: أن عبد الناصر قد
وضع تليفونات كثيرة على مكتبه والراديو، ولذلك هو متوتر دائماً وينتظر الأخبار
المحلية والدولية، يصحو وينام عليها، أما السادات فليس له مكتب، إنه جالس هناك في
الحديقة بعيداً عن التليفونات وعن شدة الأعصاب.
وأذكر عندما كنت عضوةً في إحدى
مشاريع جامعة الدول العربية وقت دراستي أنني كنت من هواة جمع المقالات القديمة
العمر من أرصفة الأزبكية فقد كانت تغذيني بما أفقده من روايات جدتي وأمي وأقاربي
وأصدقائي ممن عاشوا التواريخ القديمة بحذافيرها، كنت أرى الأحداث بأعينهم وكأنني
عشتها، وكانت قرائاتي تزيدها إثراءً للمعلومات أو تعويضاً لما كان منقوصاً، ففي
عصرٍ ليس ببعيدٍ جداً كانت الصحافة مرآةً لمجتمعٍ لما تنقله من أحداثٍ واضحة كوضوح
رؤية نفسك في المرآة، ولكن أعيش اليوم عصراً تعد حتى رؤيتك لنفسك في المرآة تثير
في النفس العديد من التساؤلات عن ماهية من تكون وإن كنت تعرف نفسك حقاً أم لا،
فكيف لنا أن نصدق كل مانسمعه أو نقرأه.
وفي وقتٍ ليس ببعيد وصلت فيه
الصحافة والتلفزيون في عصر الرئيس مبارك لدرجةٍ من الحرية والإباحية ماكان يسمح
للعديدين من أبناء الإعلام لاستغلالها لقذف هذا وذاك، فأصبحت حرية نقل الأخبار
والأحداث مبارياتٍ لفقد نزاهة المهنية لدى المُتلقي، وإن كان يمتهنها العديد من
غير أصحابها، وحتى وإن كانت تطبق عليهم بنود القانون من حبسٍ أو غرامات مالية، فقد
وصل الشعب لدرجةٍ من عدم المبالاة بما يجد من أحداثٍ ومنهم أنا بعد أن فقدنا
مصداقية التاريخ وأحداثه بما يُنقل وعن طريق من ينقله لنا، والآن بعد أحداث فوضى
يناير 2011 وتنحي الرئيس مبارك أصبح الحال في الإعلام يُرثى له خاصةٍ حينما أرى
العديدين من من كانوا يحملون ألسنةً حرة مقيدين بما وجب عليهم قوله لنيل شرف إرضاء
الفوضى، وبعد أن كانت الصحافة ونقل الأحداث من أرقى المهن لما تعكسه لمجتمعاتها
ولما يواجهه أربابها من صعوباتٍ على مختلف الأصعدة لنقل الحقائق لمجتمعٍ يعجز أكثر
من نصفه عن مجاراة كل الأحداث لعدم معرفته الحقيقة مجردةً من أراء هذا وذاك، أصبحت
وسيلة كل من يمتلك مالاً ونفوذاً للظهور وإطلاق الأراء دون استناد ودون أدنى
إحساسٍ بالتاريخ والدور الذي يمليه عليه الضمير، وأصبحت مرآتنا مشوشةً لانرى فيها
من نحن وكيف يمكننا العبور من أزماتنا، فأخبارٌ تُسرد وتُكَذَّب في اليوم التالي،
وقنواتٌ تُحرض على الانقلابات ضد أنظمة الدول وكأننا أضحينا معسكراً نازياً، وأصبحت
مختلف طبقات الشعب محللين ونقَّاد بعد أن كنَّا مانسمى فقط...دولة مصر.
أخاف مما أتلقاه أن لا أستطيع
يوماً تمييز حقائق التاريخ من زيفها، ولن أجد مرجعاً لدي في أرصفة الأزبكية...
No comments:
Post a Comment