في غمرة الواقع ومايحتويه من أحداثٍ
متلاحقة ومستمرة وغير منقطعة ترى دائماً بصيصاً للوهم يخترق جدراناً سميكةً من
قرارات العقل، ومتى قررت الانسحاب وتناسي ماقد تراه بعيني الوهم يجذبك القلب بدقات
تتسارع بتوافد ذكريات الأشياء على خاطرك، فهناك من يناديك وتسمع أناته باستمرار،
قد تتغافل عنه، قد تتناساه وتغلق أذانك مراتٍ ومراتٍ وتظن أنك نجحت وتسعد بما
أغرقت نفسك فيه من صخبٍ للأحداث وملفات وأوراق، ولكن في نهاية اليوم وأنت في طريقك
إلى سريرك لتريح عضلات العقل والقلب والروح وتنام لتمضي مابقي من ساعات اليوم
بعيداً عن التفكير تصاحبك الأحلام وتتمخض لتريك ماكان ينسجه الخيال بداخلك طوال
اليوم وماكان يتفاعل معك في الباطن الخفي دون وعيٍ وإدراكٍ منك، كما هو أيضاً
الحقيقة التي تصاحبك في غفلةٍ متعمدةٍ منك.
إنها الرغبات الحقيقية التي يريدها
الخيال كونها أصليةً وطبيعيةً ولاتحتوي على ألوان الحياة الصناعية، إنها رغبات
الإنسان الحقيقية والتي يود لو أنها تتحقق ولايستطيع أن يمد يداه ليمسك بها، فهى
عاليةٌ جداً عليه ويداه قصيرتان عن الإمساك بها، فقط لايستطيع إلا أن يلحقها متأملاً
ومنتظراً لأي أملٍ يجعلها تنزل من عليائها لترمي بنفسها بين يديه، أنّ ذلك الأمل
هو الإحساس بما يؤمن به وإن دلّت أفعاله عكس ذلك.
وهكذا الحال، أظل أركض وأركض
بعيدةً جداً عن الألم وأبحث عن ماكان له أن يكون وماكان ومافعلت، كأن الأحداث لانهائيةً
تطوف حول رأسي متمنيةً أن أفتحه لترسو بداخله، ولكني أتعمد مراراً ومراراً أن
أغلقة حمايةً لذلك الكيان الذي أحتويه، فهو ملكيةٌ حرةٌ غير مستعبدة، وإن كانت
الروح ذليلةً لبارئها الذي جعلها أرق من غشاء الفراشات وأخف من طائرةٍ ورقية أفلتت
من يد صاحبها تاركةً زمام أمرها لطيات الرياح ونسمات الهواء لتحركها.
ظننت أن الانغماس في الواقع يساعد
في إخفاء ماكنّا نعيشه ويبطل مفعول الألم، ظللت أركض بعيداً علّ الابتعاد عن
الذكريات يمحوها، ولكنني تناسيت أن الذكريات كلأطلالٌ مدفونةٌ بداخلنا لاتنسانا
لننساها، وأن الهواء الذي نتنفسه متجدد يعيد نفسه إلى أنفاسنا من جديد، وأن الصوت
صداه مستمر وإن انتهى الحديث فكل الكلام يصدو من حولي بصداً من داخلي، إن استعبادنا
بسلسلة الماضي ناتجٌ من واقعٍ جميل رسمناه قديماً ببرائتنا قبل أن نُلوّث نفوسنا، ونظل
لانطلب إلا أن يظل نظيفاً كي نبتسم كلما تذكرناه، فالذكريات ماهى إلا الجميل من
لحظاتنا ومايُبقي أرواحنا تسبح عالياً في ملكوتٍ نظيفٍ بعيدٍ عن الأرض، وارتباطنا
بها استعبادٌ لاينحل إلا بمفتاح وحيد لانملكه، ولربما لا نود أن نتحرر من قيده.
No comments:
Post a Comment